وصف شخصية طريفة في الحي سنة سابعة
من بين الذكريات التي ظلت عالقة بذهني عن زمن الطفولة بحينا القديم ذكرى عجوز رحمه الله . كان وجها من وجوه الحي يعرفه الجميع صغارا و كبارا شيوخا و شبابا و أطفالا .
كان العم جمعة عجوزا أتى على العقد السابع من عمره ، تُوفيت زوجته و رحل أبنائه الثلاثة عنه بعد أن تزوجوا و استقر كل منهم في ناحية من بلاد المهجر ، كان العم جمعة فقيرا يهتم بتلبية حاجيات الأسر الميسورة الحال بقضاء حاجيات ربات الأسر و إيصال الأطفال إلى المدرسة و العودة بهم إلى بيوتهم . كان يخيل إلي أن دماء العشرين هي التي تتدفق حارة قوية في عروقه فقد أخفق الزمن بكل صولته و جبروته في أن يغير منه شيئا أو يترك به أثرا . كان العم جمعة طويل القامة ضامر الجسم مستقيم الظهر لم تتراخ عضلاثه رغم تقدم سنه غليظ الرقبة قصير الأصابع يلبس طربوشا غائرا و يرتدي جبة فضفاضة في الصيف أما شتاءً فالقشابية هي لباسه الدائم قد يستعيض عنها أحيانا ببرئسه الصوفي . كنت أرى "العم جمعة " كل يوم تقريبا يصافح عيناي وجهه المتغضن و شعرة الفاحم السواد الذي لم يخط الشيب إلا البعض من شعراته ، تبرز عيناه من تحت حاجبيه الكثيفين كزهرتين متفتحتين ، كل شيء فيه صامد أمام صولة الزمن إلا شيء واحد كان يمكن أن يتغلب عليه لو تيسر له المال إنه أسناه التي سقطت عن آخرها و تركت فمه أشبه بقطعة من الليل ، فالطقم الصناعي يساوي مالا لم يجتمع يوما في حوزة " العم جمعة " و لم تكن له القدرة على امتلاكه دفعة واحدة . و كان إلى جانب هذا المظهر الفريد يتمتع بخفة روح و سرعة بديهة و ذاكرة ما محت الأيام شيئا من مخزونها و لسانا ما أضعفت الأحداث من حدته . لقد كان يتولى مهمة الترفيه عنا طوال الطريق التي نقطعها من حينا إلى المدرسة وهي طريق طويلة نسبيا لم أكن أتخيل أنه بامكاني أن أقطعها كل يوما ذهابا و أيابا دون أن يكون بيننا العم جمعة يشغلنا عن طولها بمزاحه و يخفف من وطأتها بنكته الطريفة التي لا تنتهي . أحسست أني أحب هذا الرجل الذي يرفه عنا دون مقابل و الذي يهرغ لتلبية حاجيات الأسر المختلفة بدون توان أو تلكا . لقد كان مشهد الرجل يثير في أنفسنا الإعجاب و الشفقة في أن فمهما كان يتمتع بصحة و نشاط موفور فهو شيخ مسن على كل حال و لا يمكن أن نتغاضى عن وضعيته الاجتماعية الهشة بسهولة . مرت أيان طويلة لم نرَ فيها العم جمعة ثم علمت أنه أصيب بمرض عضال و أن نسبة شفائه منه ضعيفة ، اجتمعت و صبية الحي و قررنا الذهاب لزيارته في منزله الواقع في أطراف الحي ، عند دخولنا خيم علي الوجوم و جمدت في مكاني و أنا أرى العم جمعة غائبا عن الوعي يئن أنيئا خافتا ، حبست دموعي و حاولت التجلد لكن عبثا فقد خنقتني العبرات و استرسلت في نشيج متواصل ، لا أدري كم مضى من الوقت حتى علمت بنبأ وفاة العم جمعة لم أصدق بادئ الأمر و لكن الحقيقة دائما بنت الألم و توأم المرارة .
رحل العم جمعة تاركا في عقولنا الصغيرة صورة من أجمل الصور عن المحبة و الوئام و رغم مرور سنين على هذه الواقعة فإن الذكرى ناصعة إلى اليوم